فصل: تفسير الآيات رقم (1- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة الانفطار

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

انفطرت‏:‏ انشقت‏.‏ انتثرت‏:‏ تبعثرت، وتفرقت‏.‏ فُجرت‏:‏ فتحت على بعضها وزالت الحواجز التي بينها‏.‏ بُعثرت‏:‏ فُرقت وأزيل التراب عن الموتى، واخرجوا منها‏.‏ ما قدّمت‏:‏ من اعمال الخير، وما أخرته ولم تعمله‏.‏ فسوّاك‏:‏ جعل اعضاءك سوية متناسبة‏.‏ فعدَلَك‏:‏ جعلك معتدلا متناسب الخَلق‏.‏ في أي صورةٍ ما شاء ركّبك‏:‏ في صورة حسنة هي من أعجب الصور وأحكمها‏.‏ الدّين‏:‏ الجزاء يوم القيامة‏.‏ حافظين‏:‏ يحصون أعمالكم‏.‏ يَصْلونها‏:‏ يدخلونها‏.‏

تبدأ السورة بعرض اربعة مشاهد من أهوال يوم القيامة‏:‏ إذا السماءُ انشقّت وتساقطت كواكبُها متبعثرة، واذا فُجّرت البحارُ وزال ما بينها من حواجز، واذا القبورُ فُتحتت وبُعثرت وخَرج من فيها من الناس أشتاتاً ليُرَوا أعمالهم- عند ذلك تَعلَم كلُّ نفسٍ ما عملتْ وما لم تعمَل‏.‏

ثم ينتقل الخطاب الى الانسان في صورة عتاب‏:‏ يا أيها الانسان، أيُّ شيءٍ خدعَكَ بربك الكريم حتى تجرّأتَ على عصيانه‏؟‏ هو الذي أوجدَك من العدَم، وخلقك في هذه الصورةِ المتناسبة الأعضاء مع اعتدال القامة في أحسن تقويم‏!‏ وبعد كل هذا نجدكم يا بني آدمَ مكذبين بيوم الدين‏:‏

‏{‏كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين‏}‏ ‏!‏ ارتَدِعوا عن الاغترار بكرمي لكم، فإنكم محاسَبون ومسئولون‏.‏

ثم بين لهم ان أعمالَهم مكتوبةٌ يُحصيها عليهم ملائكةٌ كِرام كاتبون ‏{‏يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ من خيرٍ أو شرّ‏.‏ كما جاء في سورة الزخرف 80 ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ اما كيفية حفظِهم وكتابتهم، وهل عندَهم أوراق وأقلام، او هناك ألواح تُرسَم فيها الأعمال- فلا نعلم عن ذلك شيئا، وإنما نقول‏:‏ إن قدرة الله كفيلة بأن يخلق من الطرق ما لا يَظلم به عبادَه‏.‏

ثم ذكر نتيجة الحساب، والثواب والعقاب، وبيّن ان العاملين في ذلك اليوم فريقان‏:‏ وبيّن مآل كل منهما فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين‏}‏

ان المؤمنين الأبرار، الصادقين في إيمانهم- سينالون جناتِ النعيم؛ أما الذين جحدوا وانشقّوا عن أمر الله وهم الفجار- ففي النار، يدخلونها بعد الحساب‏.‏

‏{‏وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ‏}‏

ذلك أن وعْدَ الله حقٌّ، فهم في جهنم لا محالة‏.‏

ثم بين الله اهوال ذلك اليوم وشدائده فقال‏:‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين‏}‏‏.‏

إنك أيها الانسان تجهل ذلكَ اليومَ العظيم، فهو فوق ما تتصور بشدائده وأهواله‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏‏.‏

لا أحد يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لغيره في ذلك اليوم‏.‏‏.‏ وكلّ إنسانٍ مشغولٌ بنفسه‏.‏‏.‏ والأمر في ذلك اليوم لله وحده، فهو المتفرد بالأمر والنهي، فلا شفيع ولا نصير، واليه المرجع والمآب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ فعدَّلك بتشديد الدال، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي‏:‏ فعَدَلك بفتح الدال من غير تشديد‏.‏ وقرأ ابن كثير وابو عمرو يومُ لا تملكُ برفع يوم، والباقون يومَ لا تملِكُ بالنصب‏.‏

سورة المطففين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 17‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ويل للمطففين‏:‏ هلاك عظيم للذين يبخسون المكيال وينقصونه، طفّف المكيالَ‏:‏ نَقَصَه‏.‏ اذا اكتالوا على الناس يستوفون‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏:‏ عندما يكتالون لأنفسِهم من الناس- يأخذون حقهم وافيا، اما اذا كالوهم أو وزنوهم فإنهم يُنقِصون حقوق الغير‏.‏ سجِّين‏:‏ اسمُ الكتاب الذي تُكتب فيه اعمالهم‏.‏ مرقوم‏:‏ له رقم وعلامة‏.‏ أساطير الأولين‏:‏ أخبار الماضين‏.‏ ران على قلبِه‏:‏ غطى عليه‏.‏ لَمحجوبون‏:‏ لمطرودون عن أبواب الكرامة‏.‏ لَصالو الجحيم‏:‏ داخلون فيها‏.‏

تبدأ السورة بحربٍ يعلنها الله على أناسٍ يمتهنون سرقة الناس، سماهم الله «المطفِّفين»، لأن الشيء الذي يأخذونه من حقوق الناس شيءٌ طفيف، ولكنه سرقةٌ وغشّ‏.‏ أما مَن هم، فهم أولئك الذين يتقاضَون بضاعتهم وافية عند الشراء ويعطونها للناس ناقصةً عند البيع‏.‏

ثم جار بصيغة التعجب من عمل هؤلاء المجرمين فقال تعالى‏:‏

‏{‏أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين‏؟‏‏}‏

ألا يخطر ببال هؤلاء المطفّفين أنهم سيُبْعثون ليوم عظيم الهول، حيث يقف فيه الناس للعرض والحساب‏!‏

ولا يخفَى ما في الوصفّ «لربّ العالمين» من الدلالة على عِظَم الذنب في أكلِ أموال الناس بالباطل‏.‏ فالميزان هو قانونُ العدل الذي قامت به السموات والأرض‏.‏

وبعد ان ذكر اللهُ تعالى أنه لا يزاول التطفيفَ ونقصَ الميزان الا من ينكر يومَ القيامة والبعثَ والجزاء- أمر هنا بالكفّ عما هم فيه، وذكر ان الفجّارَ، كما سمّاهم، قد أُعدّ لهم كتابٌ أُحصيتْ فيه جميع أعمالهم ليحاسَبوا عليهاز

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏

كفّوا عما أنتم عليه، فهناك سِجِلٌ لاعمال الفجّار فيه جميعُ أعمالهم اسمه سِجّين، ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ‏؟‏‏}‏ إنه شيء عظيم ليس مما كنتَ تعلمه يا محمد أنتَ ولا قومك‏.‏ ان الأمر اكبرُ وأضخم من أن يُحيط به عِلم، فهو ‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ‏}‏، مسطور له علامة واضحة، لا يُزاد فيه ولا يُنقَص منه، ‏{‏لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ثم يأتي بالتهديدِ والوعيد لمن يكذّب باليوم الآخِر فيقول‏:‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏

الهلاكُ للجاحدين الذين لا يؤمنون بالآخرة ‏{‏وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ يظلُّ يعتدي على الحق ويُصرّ على الكفر، لأنه من المجرمين الآثمين، حتى إنه‏:‏ ‏{‏إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين‏}‏ منكراً أن القرآن قد نزل من عند الله وزاعماً انه مجرد خرافات وأباطيل عند الأمم السابقة، جاء بها محمد، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ثم بيّن الله تعالى ان الذي جرّأَهم على الجحود والتمادي في الإصرار على الإنكار والكفر هي افعالهم القبيحة التي مَرَنوا عليها حتى صاروا لا يميزون بين الخُرافة والحجّة الدامغة فقال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

ليس القرآنُ والبعثُ والجزاء من الأساطيرِ والخرافات، بل عَمِيَتْ قلوبُهم وغطّت عليها أفعالُهم وتماديهم في الباطل، فطُمسَ على بصائرهم، والتبست عليهم الأمورُ ولم يدركوا الفرقَ بين الصحيح والباطل‏.‏

بعد ذلك ردت عليهم السورة ناقضةً ما كانوا يقولون من أن لهم المنزلة والكرامة يوم القيامة‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏‏.‏

أما ما تدّعون من انكم تكونون مقرّبين الى الله يوم القيامة، فهو وهمٌ باطل، فأنتم مطرودون من رحمة الله، ومحجوبون عنه بسبب معاصيكم وجحودكم‏.‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏‏.‏

ثم بين الله مآلهم ومصيرهم فقال‏:‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

لقد حُجبوا عن القرب من الله، وخابَ ظنُّهم الأثيم، بل إنهم لَذاهبون الى النار حيث يقال لهم تبكيتا‏:‏ إن هذا العذاب الذي حلّ بكم هو جزاؤكم بما كنتم تكذّبون في الدنيا أخبار الرسولِ الصادق الأمين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ بل ران باظهار لام بل، وقرأ الباقون‏:‏ بل رّان بادغام اللام بالراء، وقرأ اهل الكوفة‏:‏ رِين بالإمالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 36‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عِليّين‏:‏ المكان العالي الرفيع القدر، وهو مقابل‏:‏ سِجّين‏.‏ الأرائك‏:‏ جمع أريكة، وهي المقعد الوثير المنجّد‏.‏ نضرة النعيم‏:‏ بهجته ورونقه‏.‏ رحيق‏:‏ شراب خاص‏.‏ مختوم‏:‏ ختمت أوانيه‏.‏ ختامه مسك‏:‏ مختوم بأطيب انواع الطيب‏.‏ فلْيتنافس المتنافسون‏:‏ فليتسابق المتسابقون في عمل الخير ليلحقوا بهم‏.‏ مزاجه‏:‏ ما يخلط به‏.‏ من تَسنيم‏:‏ من عين يقال لها تسنيم‏.‏

بعد أن بين اللهُ تعالى حالَ الفجّار وأعمالَهم ومآلهم يوم القيامة- يعرض هنا حالَ الأبرارِ الذين آمنوا بربِّهم وصدّقوا رسولَهم‏.‏‏.‏ وهذه طريقةُ القرآن الكريم في عَرض المتقابلَين، وفي ذلك ترغيبٌ في الطاعة، وتنفيرٌ من المعصية‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ليس الأمر كما توهَّمَه أولئك الفجّارُ من إنكار البعث، ومن أن كتابَ الله أساطيرُ الأولين ‏{‏إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ‏}‏ فهو مودَع في أشرفِ الأمكنة بحيث يشهدُه المقرَّبون من الملائكة، ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ‏}‏‏؟‏ إنه أمرٌ فوق العِلم والادراك لبني البشر، وكل ما في الآخرة مختلفٌ عن حياتنا ومفهومنا‏.‏ فهو‏:‏

‏{‏كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون‏}‏ فهو مسطور علامتُه واضحة يشهدُه ويحفظُه المقرّبون من الملائكة تكريماً للأبرار، وتقديراً لجهودِهم وأعمالهم الصالحة‏.‏

بعد هذا بين منزلة الأبرار الرفيعة، وأخذت السورةُ تفصل حالضهم وما ينالون من الجزاء والنعيم‏.‏

‏{‏إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وهذا في مقابلة الفجّار الذين هم في الجحيم‏.‏ فالله تعالى يكرم المؤمنين الأبرار ويدخلُهم جناتِ النعيم، حيث يجلسون على الأرائك وينظرون الى ما أَولاهم ربهم من النعمة والكرامة، حتى إذا نظرتَ إليهم تعرفُ في وجوههم بهجةَ النعيم ونضارته‏.‏

وهم يُسقَون من شراب أهل الجنة الّذي هو الرحيقُ الخالص، الذي خُتمت أوانيه بختام من مِسْكٍ، تكريما لها وصوناً عن الابتذال، ‏{‏وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون‏}‏ ويتسابقوا‏.‏

والشرابُ السابق ممزوجٌ من عين في الجنة اسمُها «تَسْنِيم»‏.‏

‏{‏وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون‏}‏ الأبرارُ عند الله تعالى‏.‏ وكل ذلك تكريم لهم وفضلُ ضيافة‏.‏ ولقد فصّل الله تعالى ما أعدّ للأبرار ووصفَ النعيمَ الذي سيلاقونه في دارِ كرامتِه حضّاً للذين يعملون الصالحاتِ على الاستزادة منها، وحثّاً للمقصِّرين واستنهاضاً لعزائمهم ان لا يقصّروا في ذلك‏.‏

بعد ذلك انتقل الحديثُ في السورة الى ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين في الحياة الدنيا وكيف كانوا يستهزئون منهم ويَسْخَرون، وان هذا ما سيقابلُ به المؤمنون الكفار يوم القيامة ويضحكون منهم‏.‏

فقد روي أن صناديد قريشٍ مثلَ أبي جهلٍ، والوليدِ بن المغيرة، والعاصي بن وائل السُّهمي، وشَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأميةَ بن خلف، وغيرهم كانوا يؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرّضون عليهم سفَهاءَهم وغلمانهم‏.‏ وفي ذلك كله يقول تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ان المجرِمين الجاحدين، كانوا في الحياة الدنيا يضحكون من المؤمنين، ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ‏}‏ عليهم بأعينِهم وأيديهم، ويَذكُرونهم بالسوء، ويشيرون إليهم مستهزئين، ‏{‏وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ‏}‏ نفوسُهم راضية بعد ما اشبعوا تلك النفوسَ الصغيرة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ‏}‏‏.‏

واذا رأى المجرمون المؤمنين قالوا عنهم‏:‏ ان هؤلاء لَضالُّون، فقد آمنوا بمحمَّد وتركوا ما كان عليه الآباء والأجداد من عبادة‏.‏

ثم يردّ الله عليهم بكل أدب ووقار بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏

ان الله لم يرسِل الكفارَ رقباءَ على المؤمنين، ولم يُؤتهم سلطةَ محاسَبتهم على أفعالهم‏.‏

ثم طمأنَ المؤمنين بذِكر معاملتهم للمجرمين يوم القيامة، تسليةً لهم عمّا نالَهم من أذى، وشدّاً لعزائمهم على التذرّع بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏

الآن يومُ القيامة، يوم الجزاء والحساب، يجلس المؤمنون على الأسرَّة في نَعيم مقيم، ويتناولون الرحيقَ المختوم بالمِسكِ وهم يضحكون من الكفّار وما يُعانونه من العذاب والطَّرد من رحمة رب العالمين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ ختامه مسك، وقرأ الكسائي وحده‏:‏ خاتمه مسك، وقرأ الجمهور‏:‏ تعرف بكسر الراء، وقرأ يعقوب‏:‏ تعرف بضم التاء وفتح الراء، وقرأ الجمهور‏:‏ فاكهين، وقرأ حفص‏:‏ فكِهين‏.‏

سورة الانشقاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ‏(‏4‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

انشقت السماء‏:‏ تصدعت‏.‏ أَذِنت لربها‏:‏ استمعت اليه، أذِنَ للشيء‏:‏ استمع اليه، وأذِنَ بالشيء‏:‏ عَلِمَه‏.‏ حُقت‏:‏ أطاعت، وقع عليها الحق واعترفت بأنها محقوقة لربها‏.‏ واذا الأرض مُدت‏:‏ تغيرت جميع ملامحها وأصبحت قاعا صفصفا، بإزالة جبالها وتغيير معالمها‏.‏ وألقت ما فيها وتخلّت‏:‏ أخرجت جميع ما فيها من الخلائق والكنوز التي طوتها في أجيالها العديدة‏.‏ كادح‏:‏ عامل بجد ومشقة، كدح في العمل كَدحا‏:‏ سعى، وأجهد نفسَه، وعملَ خيراً أو شرّا، وكدحَ لِعياله‏:‏ كسبَ لهم بمشقة‏.‏ فملاقيه‏:‏ فسوف تجدُ عملَك امامك مسجلاً في سِجلٍّ دقيق، لا ينسى شيئا‏.‏ ينقلب الى أهله‏:‏ يرجع الى عشيرته فرحا مسرورا‏.‏ من أُوتي كتابه وراء ظهره‏:‏ صورةٌ عجيبة من الاحتقار والازدراء‏.‏ الثبور‏:‏ الهلاك، يدعو ثُبورا‏:‏ يدعو على نفسه بالهلاك‏.‏ يصلَى سعيرا‏:‏ يدخل جهنم‏.‏ إنه ظن انه لن يحُور‏:‏ انه كان لا يؤمن بالبعث، والرجوع الى الله، حار يحون حورا وحئورا‏:‏ رجَعَ‏.‏ بلى‏:‏ سيرجع الى الله ويحاسَب‏.‏

بين الله تعالى في مطلع هذه السورة الكريمة أهوالَ يوم القيامة، في آيات موجَزة هي من عجائب إيجازِ القرآن وبلاغته، وذَكَر أن ما يقع بين يدي الساعة من كوارث وأهوالٍ تُشِيبُ الوِلدان، ويفزع لها الانسان‏.‏ فمنها‏:‏

إذا تشقّقت السماءُ وتصدّعت، واختلَّ نظامُ العالم، واستمعت السماءُ لأمرِ ربّها وانقادت لحُكمه، ‏{‏وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ‏}‏ أي انبسطت بنسفِ ما فيها من جبال، وأصبحت لا بناءَ فيها ولا وِهاد، كما قذفت ما في جوفها من الخلائق والكنوز‏.‏ ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ واستمعت لأمرِ ربّها وأطاعت‏.‏‏.‏‏.‏ إذا حصل كل هذا- لَقِيَ الانسانُ من الأهوال ما لا يحيط به الخيالُ في ذلك اليوم العصيب‏.‏

بعد هذه المقدمة الهائلة أخبرَ اللهُ تعالى عن كدِّ الإنسانِ، وتعبه في هذه الحياة‏.‏

‏{‏ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ‏}‏‏.‏

يا أيها الإنسانَ الغافل عن مصيره، لا تظنَّ أنك خالد، كلاّ انك مُجِدٌّ في السيرِ إلى ربك، وراجع إليه يومَ القيامة، وان كلَّ عملٍ عملتَه، خيراً أو شراً، سوف تُلاقيه أمامك في سجلٍّ دقيق، وسَيُجازيك ربُّك على كَدْحِك من ثوابٍ وعقاب‏.‏

في ذلك اليوم ينقسم الناسُ فريقين‏:‏ فريقَ الصالحين البررة، وهؤلاء يحاسَبون حسابا يسيرا، وينقلبون الى أهلهم فرحين مسرورين كما قال تعالى، ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً‏}‏ إذ يتجاوز الله عن سيئاته‏.‏ وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من نُوقش الحسابَ عُذِّب‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ أوليسَ الله يقول ‏{‏فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً‏}‏ فقال‏:‏ إنما ذلكَ العَرضُ، ولكنّ من نوقش الحسابَ عُذِّب»‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«ان الله يُدني العبدَ يوم القيامة حتى يضعَ كَنَفَهُ عليه، فيقول له‏:‏ فعلتَ كذا وكذا، ويعدِّدُ عليه ذنوبَه ثم يقول له‏:‏ سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرُها لك اليوم»، فهذا هو المرادُ من الحساب اليسير‏.‏ الكنف‏:‏ الرحمة والستر‏.‏

والفريق الثاني فريق العصاة الجاحدين، وهؤلاء يحاسبون حساباً عسيرا ويَلْقَون من العذاب ما لا يتصوره الانسان‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً ويصلى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً‏}‏‏.‏

هذه صورةٌ عجيبة جديدة، تأتي لأول مرة في القرآن الكريم، وهي إعطاء الكتاب للمجرمِ من وراءِ ظهره، وما هي الا نوعٌ من الاحتقار وازدراء به‏.‏ وهو حين يتناوله على هذه الصورة يدعو على نفسه بالهلاك والموت، ولكن لا يجاب، ويكون مصيره النار وبئس القرار ويقول‏:‏

‏{‏ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25-29‏]‏‏.‏

لماذا‏؟‏ انه كان في الدنيا ساهياً لاهيا، سادراً وراء شهواته يُنكر البعثَ والحسابَ والجزاء، وقد ظنَّ أن لن يرجعَ إلى الله، ولن يبعثَه بعدَ الموت‏.‏

‏{‏بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً‏}‏

بلى إن الله سيعيدُه بعد موته ويحاسِبُه على عمله، وهو لا تخفى عليه خافية‏.‏

قراءات

قرأ نافع وابن عامر وابن كثير والكسائي‏:‏ يُصلى بضم الياء وفتح الصاد واللام المشددة، والباقون‏:‏ يصلى بفتح الياء واسكان الصاد وفتح اللام من غير تشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 25‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الشفق‏:‏ الحمرة التي تشاهَد في الأفق الغربي بعد الغروب، ويستمر الى قبيل العشاء، والشفقُ‏:‏ الشفقة‏.‏ وسَقَ الليل الأشياء‏:‏ جلّلها وجمعها، وسقت النخلة‏:‏ حملت‏.‏ اتّسَق‏:‏ اكتمل وتم نوؤه وصار بدرا‏.‏ لتركبنّ طبقا عن طبق‏:‏ لَتُلاَقُنَّ حالاً بعد حال، بعضها أشدّ من بعض وهي الحياة، والموت، والبعث، وأهوال القيامة‏.‏ بما يوعون‏:‏ بما يُضمِرون في نفوسهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي‏.‏ غير ممنون‏:‏ غير مقطوع‏.‏

بعد هذه الجولة العميقة الأثر بمشاهدِها، لتأكيد أن الانسانَ راجع الى ربه يوم القيامة، حيث يحاسَب حساباً يَسيرا أو عسيرا حسب أعماله- يُقسِم الله تعالى بآياتٍ له في الكائنات أنّ بعثَ الناس يوم القيامة كائن لا محالة‏.‏

‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

تتكرر هذه العبارة في القرآنِ، وهو أسلوبٌ يأتي عندما يكون الشيءُ الذي أقسَمَ الله عليه جليلَ القدر، فيقول سبحانه‏:‏ لا أُقسِم بهذه الأشياءِ على إثباتِ ما أريد لأن أمره ظاهر، واثباته أعظمُ وأجلُّ من أن يقسَم عليه‏.‏ وأول هذه الأمور الشفَق‏.‏‏.‏ ثم يأتي‏:‏

فباللّيلِ وما وسَق، أي ما جمعه من الكائنات التي تسكن فيه عن الحركة، والقمرِ عندما يتم نوره ويصير بدراً كاملا‏.‏‏.‏ بحق هذه الأمور الثلاثة، والتي لا يخفَى على الناس ما فيها من المنافع، وما فيها من الآيات الناطقة بحكمة واضعِ نظامها- ‏{‏لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ‏}‏ وهنا جواب القسم‏:‏ لتلاقُنَّ ايها الناس حالاً بعد حال، رخاءً بعد شدة، وسُقماً بعد صحة، وغنًى بعد فقر، منذ خَلْقِكم الى طفولتكم، وشبابكم وشيخوختكم، ثم موتكم، ثم بعثكم يوم تُحشَرون إلى ربكم للحساب‏.‏

ثم بعد ان ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب والجزاء أتى باسلوب فيه استفهام يقصد به التوبيخ‏.‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏؟‏‏}‏‏.‏

ما لهؤلاء الجاحدين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه‏!‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ‏}‏‏.‏‏.‏ خضوعاً لربّ هذا الكون البديع‏!‏

وهنا موضع سجدة‏.‏ لقد منعهم العنادُ والاستكبار من الإيمان، فهن يفعلون ذلك تعالياً عن الحق، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته‏.‏

‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ‏}‏

والله أعلمُ بما يكنّون في نفوسهم، ويُضمرون في جوانحِهم من شر وإصرارٍ على الشرك‏.‏

ثم يتجه الخطاب الى الرسول الكريم فيقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أيْ أخبِرْهم يا محمد عمّا ينتظرهم من عذاب‏.‏ والتعبير بقوله‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ‏}‏ فيه تهكّم لاذع حيث استعمل البشارةَ مكان الإنذار‏.‏

ثم يختم السورة الكريمة بما أعد للمؤمنين من أجرٍ دائم غير منقطع، فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ بل هو دائم غير مقطوع عنهم في دار البقاء، ولَنِعم دار المتقين‏.‏

قراءات

قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، لتركبَن بفتح الباء والخطاب الى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون، لتركبُنّ بضم الباء والخطاب للجميع‏.‏

سورة البروج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 22‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ‏(‏1‏)‏ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ‏(‏2‏)‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ‏(‏3‏)‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ‏(‏4‏)‏ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ‏(‏5‏)‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏8‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ‏(‏14‏)‏ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ‏(‏15‏)‏ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ‏(‏17‏)‏ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ‏(‏18‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ‏(‏20‏)‏ بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ‏(‏21‏)‏ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

البروج‏:‏ واحدها بُرج بضم الباء، ومن معانيه‏:‏ القصر العالي، والحصن، وبروجُ السماء الاثنا عشر، وهي تضم منازلَ القمر الثمانية والعشرين، وسيأتي تفصيلها‏.‏ اليوم الموعود‏:‏ يوم القيامة‏.‏ شاهد ومشهود‏:‏ جميع ما خلق الله في هذا العالم‏.‏ الأخدود‏:‏ الشق المستطيل في الرض، جمعُه أخاديد‏.‏ وأصحاب الأخدود‏:‏ قومٌ من الكافرين، كان لهم قوة وسلطان‏.‏ ما نقموا منهم‏:‏ ما أنكروا عليهم، وعابوهم‏.‏ فتنوا المؤمنين‏:‏ ابتلوهم، وحرقوهم بالنار، يقال‏:‏ فتن المعدنَ‏:‏ صهره في النار‏.‏ عذاب الحريق‏:‏ عذاب النار في جهنم‏.‏ البطش‏:‏ الأخذُ بالعنف والشدة‏.‏ يُبدئ ويعيد‏:‏ يبدأ الخلق ثم يفنيهم، ثم يعيدهم أحياء‏.‏ الودود‏:‏ الذي يحب أولياءه وعباده الصالحين، ودَّهُ يودّه ودّا بكسر الواو وفتحها وضمّها ووِدادا، وودَادة، ومودّةً‏:‏ أحبّه‏.‏ الودود‏:‏ كثير الحب، وهو ايضا اسم من أسماء الله الحسنى‏.‏ ذو العرش‏:‏ صاحب الملك والسلطان، والقدرة النافذة‏.‏ المجيد‏:‏ السامي القدر، المتناهي في الجود والكرم، يقال‏:‏ مجثد مجادة، فهو مجيد‏.‏ محيطٌ‏:‏ بهم، فهم في قبضته‏.‏ محفوظ‏:‏ مصون من التحريف والتغيير والتبديل‏.‏

‏{‏والسمآء ذَاتِ البروج‏}‏

أقسَم الله تعالى بالسماءِ البديعة وما فيها من نجوم لِينبِّهَنا الى ما فيها من دقة الصنع، وبالغ الحكمة، لِنعلمَ ان الذي خلَقها أجلُّ وأعظم‏.‏

والبروج اثنا عشر وهي‏:‏ الحمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسُنبلة، والميزان، والعقرب، والدَّلو، والجَدي، والحوت، والقوس‏.‏ وتحلُّ الشمس كل شهرٍ في واحد من هذه البروج، وكلٌّ منها يضمُّ منزلَين وثلُثاً من منازل القمر، وعددها ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل يوم في واحد منها ويستتر ليلتين يغيب فيهما‏.‏

ومنازل القمر هي‏:‏ الشرطان، والبطين، والثريا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعة، والذِراع، والنثرة، والطَرْف، والجَبْهة، والزّبرة، والصرفة، والعَوّاء، والسِّماك الأعزل، والغفر، والزُّبانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنعائم، والبلدة، وسعدُ الذابح، وسعد بَلَعَ، وسعدُ سُعود، وسعدُ الأخبية، والفرغُ الأول، والفرغُ الثاني، وبطنُ الحوت‏.‏

ونرى في السماء ستة بروج، والستة الاخرى تكون في سماء نصفِ الأرض المغيَّبة عنّا‏.‏

ونرى في المنازل اربعة عشر منزلا، والبقية في النصف المغيّب عنّا‏.‏ والبروج الاثنا عشر، منها ستة في شمال خط الاستواء، وستة اخرى في جنوبه‏.‏

فاما التي في شماله فهي‏:‏ الحمل، والثور، والجوزاء‏.‏

وهذه الثلاثة تقطعها الشمس في ثلاثة اشهر هي فصل الربيع، ثم السرطان، والاسد، والسنبلة، وهذه هي فصل الصيف‏.‏

والستة التي في جنوب خط الاستواء هس‏:‏ الميزان، والعقرب، والقوس، وفيها يكون فصل الخريف‏.‏

ثم الجدي، والدلو، والحوت، وفيها يكون فصل الشتاء‏.‏ هكذا قسّم القدماء البروج والمنازل‏.‏

ولقد اقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من نجوم لا تُعدُّ ولا تحصى، ومن جملتها هذه البروج، لأننا نراها ونشاهدُها دائما، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة‏.‏

وقد اهتم العربُ اهتماماً كبيرا بمعرفة هذه النجوم، ومن قبلِهم اهتمت الأمم التي سبقتهم‏.‏ وكانوا احوجَ الناس الى معرفتها، ومواقع طلوعها وغروبها، لأنهم يحتاجون اليها في السفَر برّاً وبحراً، إذ يهتدون ليلاً بهذه الدراري اللامعة، فلولاها لضلّت قوافلُهم وهلكت تجارتُهم ومواشيهم، وهذا ما أشار الله تعالى اليه بقوله‏:‏

‏{‏وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولذلك اهتم العرب بهذه السماء العجيبة، وعرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسمّوها بأسماء مخصوصة، وذكروا في أشعارهم بعضها، مثل الفَرْقَدَين والدَّبَران، والعَيُّوق، والثريا، والسِّماكَين، والشِّعْرَيَيْن، وغيرهما مما ذكر في كتب الفلك والأدب والتفسير والتاريخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وقد صور العلامة ابو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي جميع أسماء الكواكب المستعملة عند العرب في كتابه البديع‏:‏ صور الكواكب الثمانية والاربعين، والذي حوى نحو مئتين وخمسين كوكبا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

فالقَسم بهذه السماء البديعة الصنع، العجيبة التركيب، وما فيها من نجوم ومجرات، ومجموعات لا نعلم منها الا القليل القليل- قَسَمٌ عظيم، والذي أقسَمَ أجَلُّ أعظمُ‏.‏

‏{‏واليوم الموعود‏}‏

هو يوم القيامة الذي وعَدَ اللهُ أنه لا بدّ آتٍ للحساب والجزاء‏.‏

‏{‏وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏}‏

وبجميع ما خلق اللهُ في هذا الكون العجيب، مما يشهده الناس ويرونه رأيَ العين‏.‏ وبهذا يوجه الله تعالى انظارنا الى ما في هذا الكون الواسع الكبير من العظمة والفخامة والحكمة، لنعتبر ونتعظ، ونعلم أن الله الذي خلق هذا الكون هو الذي يستحق أن يعبد‏.‏

‏{‏قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود‏}‏

قاتلَ اللهُ أصحابَ الأخدود ولعنهم، فهم الذين شقّوا في الأرض شقاً مستطيلا كالخندق، وملأوه بالنيران، وحرقوا بها المؤمنين بالله‏.‏

ثم بيَّنَ من هُم أسحابُ الأخدود فقال‏:‏

‏{‏النار ذَاتِ الوقود‏}‏

إنهم أصحابُ النار المتأججة التي أوقدوا فيها الحطب الكثير، فارتفع لهبها‏.‏

ثم بيّن إجرامَهم وقسوةَ قلوبهم بقوله‏:‏

‏{‏إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ‏}‏

قُتل هؤلاء المجرمون ولُعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم جلوسٌ حولَها، يشهدون العذابَ، ويتشَفَّون بإحراقهم‏.‏

‏{‏وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض‏}‏

وما كان للمؤمنين من ذنْبٍ عندهم، ولا انتقموا منهم، إلا لأنهم آمنوا بالله العزيزِ، الغالبِ الذي لا يُضام مَنْ لاذَ به، الحميدِ في جميع اقواله وافعاله‏.‏

ثم بين الله تعالى انه مطلع على ما فعلوا بالمؤمنين، وأوعدهم بانهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال‏:‏

‏{‏والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏

إنه تعالى مطَّلع على اعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم، فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه‏.‏

وبعد أن ذكر قصةَ أصحابِ الأُخدود، وما فعلوه من العذاب الكبير بالمؤمنين- شدَّد النكير على أولئك المجرمين الذي عذّبوهم، بأنه أعدَّ لهم عذاباً أليما في نار جهنم، وانه إن أمهَلَهم فإنه لا يُهمِلُهم، فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق‏}‏‏.‏

ان الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات في دِينهم بالأذى والتعذيبِ بالنار ولم يتوبوا الى الله من ذلك الجرم الكبير، بل ظلّوا مصرّين على كفرهم وعنادهم- لهم في الآخرة عذابُ جهنم وحريقُها كما أحرقوا المؤمنين‏.‏

وقد اختلف المفسرون في حقيقة أصحاب الأخدود، وأين كان موضعهم ومن هم، وأوردوا أقوالا كثيرة لا فائدة منها فأضربنا عنها وتركناها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وبعد ان ذَكر اللهُ تعالى ما أعدّ لأولئك المجرمين من العذاب، بين هنا ما يكون لأوليائه المؤمنين من النعيم المقيم، فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير‏}‏‏.‏

بهذا القول الكريم يتمثل رضى الله وإنعامُه على الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، حيث تكون خاتمتُهم في جناتِ النعيم التي تجري من تحتِ أشجارها الانهارُ، وهذا هو الفوزُ الكبير، جزاء صبرهم وإيمانهم وعملهم الصالح‏.‏

ثم اخبر تالى عن انتقامهِ الشديد من أعدائه وأعداء رسُله والمؤمنين فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئ وَيُعِيدُ وَهُوَ الغفور الودود ذُو العرش المجيد فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

ان انتقام الله من الجبابرة والظَلَمة، وأخْذَه إياهم بالعقوبة، بالغُ الغايةِ في الشدة، والنهايةِ في الأذى، فهو الخالقُ القادر الذي يبدأ الخَلْق من العدم، ثم يعيدُهم أحياءً بعد الموت‏.‏ فإذا كان قادراً على البدءِ والإعادة، فهو قادرٌ على البطش بهم‏.‏‏.‏‏.‏ لأنهم في قبضتِه وخاضعون لسلطانه‏.‏

ثم ذكر سبحانه أنه يغفر دائماً، وانه رحيمٌ لعباده، كثيرُ المحبّة لمن اطاعه، فبين في ذلك خمسةَ أوصافٍ من صفات الرحمةِ والجَلال فقال‏:‏

1- ‏{‏وَهُوَ الغفور‏}‏ وهو كثير المغفرة لمن يتوب ويرجع اليه، في أيها الناس لا تقنَطوا من رحمة الله، فإن رحمته وسِعت كلَّ شيء‏.‏

2- ‏{‏الودود‏}‏ المحبّ لأوليائه المخلِصين، اللطيف المحسِن اليهم‏.‏ وأي صفة أعظمُ من هذه الصفة‏؟‏

3- ‏{‏ذُو العرش‏}‏ صاحبُ الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي لا يُرَدّ‏.‏

4- ‏{‏المجيد‏}‏ العظيم الكرم والفضل، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال‏.‏

5- ‏{‏فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏}‏ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحُكمه ولا رادَّ لقضائه‏.‏

روي ان ابا بكر الصدّيق رضي الله عنه، قيل له وهو في مرض الموت‏:‏ هل نظرتَ الى طبيب‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ فماذا قال لك‏؟‏ قال‏:‏ قال لي إني فعّال لما أريد‏.‏

‏{‏هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏‏.‏

بعد ان ذكر قصّة اصحاب الأخدود وبيّن حالَهم، وما فعلوا بالمؤمنين- ذكر هنا ان حال الكفار في كل عصر، ومع كل نبيٍّ وشِيعته، جارٍ على هذا المنهج، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسِل اللهُ نبياً إلا واجَه من قومه مثلَ ما لقي هؤلاء من اقوامهم‏.‏

والغرضُ من هذا كله تسليةُ النبيّ الكريم وصحبه، وشدُّ عزائمهم على التذرع بالصبر‏.‏

هل بلغك يا محمد ما صَدَرَ من تلك الجموع الطاغية من التمادي في الكفر والضلال وما حلّ بهم‏؟‏ إنهم فرعونُ وقومه، وثمود‏.‏ والكفّار في كل عصر متشابهون، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدْع في الأمم، فقد سبقهم أمم قبلهم وحلّ بهم النَّكال، وكذلك سيكون مآل الجاحدين من قومك، ‏{‏فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 49‏]‏‏.‏ إنّ الكفّار في كل عصرٍ غارقون في شَهوة التكذيب، فلا تجزَعْ‏.‏ إنك لمن المنتصِرين‏.‏

‏{‏والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ‏}‏ لا يفلتون من قبضته، ولا يُعجِزونه‏.‏

ثم رد على تماديهم في تكذيب القرآن، وادّعائهم أنه أساطيرُ الأولين فقال‏:‏

‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏

إن ما جئتهم به يا محمد من قرآن عظيم، وكذّبوا به- هو من عند الله واضحُ الدلالة على صِدقك، وهو محفوظٌ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل‏.‏

قراءات

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ذو العرش المجيدِ بكسر الدال، وقرأ الباقون‏:‏ المجيدُ بالرفع، وقرأ نافع‏:‏ في لوح محفوظٌ بالرفع، والباقون‏:‏ محفوظٍ بالجر‏.‏

سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 17‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

طَرَق طَرْقا وطروقا‏:‏ أتاهم ليلا، وطَرَقَ النجم طروقا‏:‏ طلع ليلا‏.‏ النجم الثاقب‏:‏ النجم المضيء، ثقب الكوكب‏:‏ أضاءَ فهو ثاقب‏.‏ حافظ‏:‏ رقيب‏.‏ ماء دافق‏:‏ ماء مندفع بسرعة‏.‏ الصلب‏:‏ فقار الظهر، منطقة العمود الفقري، يقال‏:‏ من صُلب فلان يعني من ذريته‏.‏ الترائب‏:‏ عظام الصدر‏.‏ تُبلى‏:‏ تختبر وتمتحن‏.‏ السرائر‏:‏ الضمائر، وما يُسِره الانسان في نفسه‏.‏ الرجع‏:‏ إعادة الشيء الى ما كان عليه، والمراد هنا المطر‏.‏ الصدع‏:‏ الشق، الارض التي تنشق عن النبات‏.‏ فصل‏:‏ فاصلٌ بين الحق والباطل‏.‏ يكيدون‏:‏ يمكرون، ويدبّرون المضرة خفية‏.‏ وأكيدُ كيدا‏:‏ الكيد من الله التدبيرُ بالحق لمجازاة اعمالهم‏.‏ رويدا‏:‏ قريبا‏.‏

لقد أقسَم الله تعالى في مطلع هذه السورة بالسماء ونجومها اللامعة المضيئة، انّ النفوسَ لم تُترك سُدى، ولن تبقى مهمَلة، بل تكفَّل بها مَنْ يحفظها ويحصي أعمالَها، وهو اللهُ تعالى‏.‏

وفي هذه تسليةٌ للرسول الكريم وأصحابِه، ووعيدٌ للكافرين الجاحدين‏.‏

‏{‏والسمآء والطارق‏}‏

أُقسِم بالسماء وبالنجم الطالع ليلا‏.‏ ولقد اقسَم الله تعالى بالسماء والشمس وبالقمر والليل، لأن في أحوالِها وأشكالها وسَيْرِها ومطالِعها ومغاربها عجائبَ وأيَّ عجائب‏.‏

ثم فسّر الطارقَ بقوله‏:‏ ‏{‏النجم الثاقب‏}‏ هذه النجوم المضيئة التي لا تحصى ولا نعلم من أكثرها شيئا، ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق‏؟‏‏}‏ استفهام للتفخيم والتعظيم‏.‏ ما الذي أعلمكَ يا محمد ما حقيقةُ هذه النجوم‏.‏

ثم بين الذي حلف عليه فقال‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ أي إن كلَّ نفس عليها رقيبٌ يحفظها ويدير شئونها في جميع أطوارها، ويُحصي عليها أعمالها‏.‏

لَمَّا، هنا بمعنى إلاّ، يعني أن كل نفس عليها حافظ‏.‏ وفي قراءة من قرأها بالتخفيف انّ كل نفس لَما عليها حافظ، يعني‏:‏ ان كل نفس لَعَلَيْها حافظ، وهما قراءتان سَبْعِيَّتان‏.‏

وهذا المعنى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 10-12‏]‏‏.‏

ثم امر الله تعالى الانسانَ ألأن ينظر ويتفكر في بدءِ خَلْقه ومنشئه، وانه خُلق من ماءٍ دافق فيه ملايين الحُوينات التي لا تُرى بالعين المجردة، فالذي خلقه على هذه الأوضاع قادرٌ على أن يُعيدَه إلى الحياة الأخرى‏.‏

‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب‏}‏

فلينظر الانسانُ ويفكّر في مبدأ خلْقه‏.‏ لقد خلقه الله من ماءٍ متدفق، من مَنِيٍّ فيه ملايينُ المخلوقات التي لا تُرى بالعين المجردة، ‏{‏يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب‏}‏ أيْ من الصُّلب وعظم الصدر من الرجل والمرأة، فاذا دخَل المنيُّ رحِمَ المرأة وكانت مهيَّأةً للحمل التقى بالبيضة التي في الرحم، وكوّنت معه جرثومة الجَنين‏.‏

وقد بينت الدراسات الحديثة ان نواةَ الجهاز التناسلي والجهاز البولي في الجَنين تظهر بين الخلايا الغضروفية المكوِّنةِ لعظام العَمودِ الفَقري وبين الخلايا المكونةِ لعظام الصدر‏.‏

وتبقَى الكُلى في مكانها وتنزل الخَصيةُ إلى مكانها الطبيعي في الصَفَنِ عند الولادة‏.‏ كما ان العصب الذي ينقل الإحساسَ اليها ويساعدها على إنتاج الحيوانات المنوية وما يصاحب ذلك من سوائل- متفرعٌ من العصَب الصدريّ العاشر الذي يغادر النخاعَ الشوكيَّ بين الضِلعَين العاشر والحادي عشر‏.‏

وواضح من ذلك ان الاعضاءَ التناسلية وما يغذّيها من أعصابٍ وأوعية تنشأ من موضع في الجسم بين الصُّلب والترائب، «العمود الفقري والقفص الصدري»‏.‏

وهذه الأمور الدقيقة لم يكتشِفها العِلم الا حديثاً بعد هذه القرون الطويلة‏.‏ ومن هذه يتبين بوضوحٍ أن الانسانَ يُخْلَق وينشأ من ماءِ الرجل الدافق، وأهمُّ ما فيه الحيوانُ المنوي؛ وماء المرأة وأهم ما فيه البُوَيضة‏.‏ ونشوؤهما وغذاؤهما وأعصابُهما كلُّها من بين الصلب والترائب‏.‏

‏{‏إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ‏}‏

ان الله تعالى الذي قَدَّر خَلْق الإنسان ابتداءً من هذه الموادّ التي لا تُرى بالعين المجردة، بتلك العملية الدقيقة- قادرٌ بكل سهولة على إعادة حياته مرةً أخرى بعدَ أن يموت‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ثم بيَّن وقتَ الرجع، ذلك اليوم العظيم فقال‏:‏

‏{‏يَوْمَ تبلى السرآئر‏}‏

إنه يوم القيامة، يوم يعيدُ الله الخَلْقَ فتنكشف السرائر، وتتّضح الضمائر، وتُمتحَن القلوبُ وتختبر‏.‏

‏{‏فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ‏}‏

فليس للإنسانِ في ذلك اليوم قُوّةٌ تدفع عنه العذابَ ولا ناصرٌ ينصره ويجيرُه، فلا قوةَ له في نفسه، ولا أحدَ ينصره، الا ما قدّمه أمامه من عمل صالح‏.‏

وبعد أن بين الله تعالى امر المبدأ والمعاد، وانه قادر على اعادة الحياة، ووجّه الانظار الى التدبر في برهان هذه القدرة- شرع يثبت صحةَ رسالة النبي الكريم الى الناس كافّة، وصحةَ ما يأتيهم به من عند الله، وهو القرآن الكريم، ذلك الكتابُ الذي لا ريبَ فيه، فأَقسم على صدق هذا الكتاب فقال‏:‏

‏{‏والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع‏}‏

أُقسِم بالسماء ذاتِ المطر ‏(‏وهو أنفعُ شيء ينتظره الخلْق، الذي يرجع حينا بعد حين، ولولاه لهلَك الناسُ، وهلَك الخلق، هذا الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي‏.‏‏.‏‏)‏ كما أُقْسِم بالأرض التي تتصدّع وتنشق، فيخرج منها النباتُ والأشجار والزهر وكل ما يفيد الناس ويقيتهم- إن ما جاء به محمد ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل‏}‏ أيْ إن هذا القرآن لهو قولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغايةَ في بيانه وتشريعِه وإعجازه، وهو جِدٌّ ليس فيه شيء من الهزل والعبث، لأنه كلامُ أحكَمِ الحاكمين‏.‏

ثم بين ما يدبره الكافرون للمؤمنين، وما تحويه صدورهُم من غلٍّ ومكرٍ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً‏}‏ ويمكرون بالمؤمنين، ويحاولون صَرْفَ الناس عن الدِّين القويم، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ثم ذَكَرَ ما قابلَهم ربُّهم به، وما جازاهم عليه، وطلبَ من رسوله الكريم ان يتأنّى عليهم ليرى أخْذَه لهم فقال‏:‏ ‏{‏وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً‏}‏‏.‏

ان هؤلاء المشركين يعملون المكايد لإطفاء نور الله، وصدِّ الناس عن شريعته، وأنا أُجازيهم على كيدهم بالإمهال ثم النَّكال، حيث آخذُهم أخذَ عزيزٍ مقتدر‏.‏‏.‏ لكن بعد أن أمهلهم قليلاً‏.‏ وقد صدق وعده، ووعدُه الحق‏.‏

قراءات

قرأ عاصم وحمزة وابن عامر‏:‏ ان كل نفسٍ لمّا عليها حافظ، بتشديد لمّا، وهي بمعنى إلاّ‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ لما بغير تشديد وهي بمعنى اللام‏:‏ لَعليها حافظ‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

التسبيح‏:‏ التنزيه‏.‏ فسوّى‏:‏ فعدل هذا الكون وقومه‏.‏ وقدّر فهدى‏:‏ قدّر لكل كائن ما يصلحه فهداه اليه‏.‏ المرعى‏:‏ كل ما تنبته الارض لصالح الحيوان‏.‏ غُثاء‏:‏ يابسا مسودّا‏.‏ والغثاء‏:‏ ما يحمله السيل من الحشائش والاوراق التي لا قيمة لها‏.‏ يقال غثا الوادي يغثو غثُوّاً كثُرَ فيه الغثاء‏.‏ أحوى‏:‏ ما يُحيل لونَه الى السواد‏.‏

نيسّرك لليسرى‏:‏ نوفقك الى طريق الخير‏.‏ الذِكرى‏:‏ الموعظة‏.‏ الأشقى‏:‏ المصرّ على العناد‏.‏ يصلَى النار‏:‏ يدخلها‏.‏ قد أفلح‏:‏ قد فاز‏.‏ من تزكّى‏:‏ من طهر نفسه بالايمان‏.‏ تؤثرون‏:‏ تفضّلون‏.‏ وأبقى‏:‏ أدوم‏.‏

نزّه يا محمد ربّك الأعظم عن كل ما لا يليق بجلاله‏.‏ وقد وجّه الله الأمر بتسبيحِ اسمه الأعلى دون تسبيح ذاته ليرشدَنا الى أن مبلغ جهدنا هو معرفةُ صفاته‏.‏ اما ذاتُه العليّة فهي أعلى وابعد من أن ندركها في هذه الحياة الدنيا‏.‏ ثم ذَكَر أوصافَه الجليلة ومظاهر قدرته البالغة وكمالَه فقالك

‏{‏الذي خَلَقَ فسوى‏}‏

هذا الكونَ العجيب وأتقنَ خلقه، وأبدع صنعه‏.‏

‏{‏والذي قَدَّرَ فهدى‏}‏

قدّر لكل مخلوق ما يصلحه فهداه اليه، وعرّفه وجه الانتفاع به‏.‏

‏{‏والذي أَخْرَجَ المرعى‏}‏

وأنبتَ النبات مختلف الأشكال لترعاه الدواب‏.‏

‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى‏}‏

أي صيَّره يابسا جافا بعد الخضرة والنضارة‏.‏ وفي هذا عبرة لذوي العقول، فكما ان النبات يبدأ أخضر زاهيا ثم يَميل الى الجفاف والسواد- فكذلك الحياةُ الدنيا زائلة فانية، والآخرة هي الباقية‏.‏

وبعد ان ذكر الله دلائلَ قدرته، ذكر فضلَه على رسوله الكريم مع البشرى العظيمة له ولأمته بقوله‏:‏

‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى‏}‏

بشرى عظيمة من الله تعالى لك يا محمد أنه سيشرح صدرَك، ويقوّي ذاكرتَك فتتلقى القرآنَ وتحفظه فلا تنساه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَآءَ الله‏}‏ أن تنساه‏.‏ فانه تعالى يعلم ما يجهر به عباده وما يخفونه‏.‏

ثم يزيد البشارة فيقول‏:‏ ‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لليسرى‏}‏ ونوفّقك للطريقة السهلة‏.‏ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اليُسر في كل الأمور‏.‏

روت عائشة رضي الله عنها أنه ما خُير بين أمرين الا اختار أيسرهما‏.‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏ وكلُّ سيرته مبنيّة على اليسر، وأحاديثه تحضُّ على اليسر والسماحة والرِفق في تناول الأمور‏.‏

لقد منّ الله عليه بهذه البشرى‏:‏ أَقرأه فلا ينسى الا ما شاءَ الله، ويسّره لليسرى حتى ينهضَ بالأمانة الكبرى‏.‏ فلهذا أُعِد ولهذا يُسّر‏.‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى‏}‏

ذكِّر الناسَ بما أوحيناه اليك، لعلّهم يرجعون الى الله، وينتفع بتذكيرك من يخاف الله‏.‏ اما المعاندون الجاحدون فلا تنفع معهم الذكرى ولا تجدي‏.‏

‏{‏وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذى يَصْلَى النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا‏}‏‏.‏

فالأشقى المصرّ على العناد لا يسمع لها ولا يستفيد منها‏.‏

ومصيره الى النار الكبرى لا يموتُ فيها فيستريح بالموت، ولا يحيا حياةً يهنَأُ بها‏.‏‏.‏ بل يبقى في العذاب خالدا‏.‏

اما الذي ينتفع بالذِكرى فإنه من أهل الفوز والفلاح‏.‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى‏}‏

لقد فاز من تطهر من الشرك والآثام، وذكر اسم خالقه بقلبه ولسانه فصلّى خاشعا يرجو رحمة ربه‏.‏

ثم ردّ سبحانه على من قست قلوبهم، وتعلقوا بهذه الحياة الفانية ونسوا الآخرة فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى‏}‏‏.‏

ان جميع ما أُوحي به الى النبي الكريم هو بعينه ما جاء في صحف ابراهيم وموسى، فدينُ الله واحد، وانما تختلف صورهُ وتتعدّد مظاهره‏.‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي‏:‏ قدر بالتخفيف‏.‏ والباقون‏:‏ قدّر بالتشديد‏.‏ وقرأ ابو عمرو وروح‏:‏ يؤثرون بالياء‏.‏ والباقون تؤثرون بالتاء‏.‏

سورة الغاشية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 26‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

الغاشية‏:‏ القيامة‏.‏ خاضعة‏:‏ ذليلة‏.‏ عاملة، تعمل في الدنيا لنفسها واولادها واطماعها‏.‏ ناصبة‏:‏ تعبة‏.‏ والفعل نصِب ينصَب نصبا‏:‏ تعب‏.‏ من عينِ آنية‏:‏ من نبع ماؤه شديد الحرارة‏.‏ أنى يأنى سخن وبلغ الشِّدةَ في الحرارة‏.‏ الضريع‏:‏ نوع من النبات له شوك تأكله الإبل عندما يكون رطبا، فاذا يبس لا يستساغ‏.‏ ناعمة‏:‏ مرفهة نضرة‏.‏ لسعيها راضية‏:‏ جزاءً لعملها الذي عملته في الدنيا راضية مطمئنة‏.‏ عالية‏:‏ مرتفعة مكاناً وقدرا‏.‏ لا تسمع فيها لاغية‏:‏ لا تسمع فيها كلاما فاحشا يؤذي السامع‏.‏ فيها عين جارية‏:‏ ماء متدفق يسر الناظرين‏.‏ سرر مرفوعة‏:‏ جمع سرير واذا كان مرفوعا فانه يكون نظيفا مريحا‏.‏ واكواب موضوعة‏:‏ معدَّة ومهيأة للشراب‏.‏ ونمارق مصفوفة‏:‏ وسائد صُف بعضها الى جانب بعض، المفرد نمرقة‏.‏ وزرابي مبثوثة‏:‏ وبسُط وفرش مفروشة هنا وهناك للزينة والراحة‏.‏ الإبل‏:‏ جمع لا واحد له من لفظه مفردها‏:‏ بعير‏.‏ سُطحت‏:‏ مدت ومهدت للحياة والسير والعمل للناس‏.‏ لستَ عليهم بمسيطر‏:‏ انما انت واعظٌ ومنذر لا متسلط تجبرهم على ما تريد‏.‏ إيابهم‏:‏ رجوعهم‏.‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية‏}‏

هل جاءكَ يا محمد خبر نبأ يوم القيامة التي تغشى الناسَ وتغمرهم بأهوالها‏؟‏ والخطابُ وان كان لرسول الله فهو عام لكل من يسمع‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

بعد هذا الاستفهام فصَّلَ شأنَ اهل الموقف في ذلك اليوم‏.‏ وبيَّن أنهم فريقان‏:‏ فريق الكفرة الفجرة، وفريق المؤمنين البررة فقال‏:‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ‏}‏

في ذلك اليوم تظهر وجوه ذليلة خاضعة مهينة، عملَ أصحابها في الدنيا كثيرا وتعبوا كثيرا، ولكنْ لغير الله، فما نفعتهم اعمالهم ولا أموالهم‏.‏

‏{‏تصلى نَاراً حَامِيَةً تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏

مع هذا الذل والهوان يدخلُ أصحابُ هذه الوجوه النارَ الحامية في جهنم‏.‏ واذا عطِشوا يَسقونهم ماءً حارا من عين حرارتُها بالغة الشدّة، واذا طلبوا الطعامَ يقدَّم لهم طعام خبيث رديء، اسمه الضَريع، ليس فيه فائدةُ الطعام المعروف، لأنه ‏{‏لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ‏}‏‏.‏

فهذه الصورةُ البشعة من العذاب تصوّر في اذهاننا هولَ ذلك اليوم حتى نرعويَ ونبتعدَ عن كل ما يُغضب الله من أعمال واقوال، ونسلكَ الطريق المستقيم‏.‏

وبعد ان بين حالَ المجرمين وما يلاقون من ذلّ وهَوان وعذاب، وصف المؤمنين الصادقين بأحسن الأوصاف فقال‏:‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

أما وجوه المؤمنين الصادقين يومئذ فتكون نضرة مبتهجة كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقد فرحتْ هذه الوجوه بما لاقت من جزاء عملها في الدنيا، فهي لسعْيِها راضية، في جنةٍ مرتفعة مكاناً وقدرا‏.‏ وهي بعيدة عن اللغو، فهي في منازِل أهل الشرف في سعادة وكرامة في ضيافة رب العالمين‏.‏

في هذه الجنة ماء جارٍ من نبع صافٍ يسر الناظرين، وفيها السرر المهيّأة لهم مرفوعة نظيفة، واكوابٌ مجهزة مهيّأة لهم كلما أرادوا الشربَ وجدوها في متناول ايديهم‏.‏

‏{‏وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ‏}‏

وأنواعُ البسُط والطنافس والسجاجيد مبسوطة في كل مكان‏.‏ كل هذا النعيم أُعدّ لمن عمل صالحاً من المؤمنين، فاعتبِروا يا أولي الألباب‏.‏

فهل آن لهؤلاء الذين يزعمون انهم يؤمنون بالله أن يعتبروا بهذا الترتيب الإلهي، وان يقدّموا الاحسان في العمل حتى يبلغوا فيه غايةً مرضيّة، وان يبتعدوا عن اللهو والترف ويتحلّوا بالفضائل، ويتدبروا كتابَهم ويرجعوا الى سيرة الرسول الكريم وصحبه الطاهرين فينهضوا الى طلبِ ما أَعدّ الله لهم، ويشاركوا في بناء هذا المجتمع ويستردّوا ما اغتُصِب من أراضيهم‏!‏‏!‏

وبعد أن بين الله تعالى احوال الآخرة وما فيها من نعيمٍ للمؤمنين وشقاءٍ للجاحدين يذكّر الناسَ هنا لينظروا في هذا الوجود الظاهر، ويعتبروا بقدرة القادر وتدبير المدبّر فقال‏:‏

‏{‏أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ‏}‏‏.‏

ان هذه المشاهد معروفة لنظر الانسان حيثما كان‏:‏ الحيوان والسماء والأرض والجبال‏.‏ وأيّاً ما كان حظ الانسان من العلم والحضارة فهذه مشاهد داخلة في عالَمه وإدراكه‏.‏ ويذكّرنا الله تعالى بأن ننظر ونعتبرَ بهذه القدرة الخارقة والتدبير المحكَم‏.‏

فالجمل حيوانٌ عجيب ونفعه كبير جدا، عليه يسافر الانسان ويحمل أثقاله‏.‏ ومن لبنِ الناقة يشرب، ويأكل من لحومها، ومن أوبار الإبل وجلودها يلبس ويتّخذ المأوى‏.‏ فقد كانت الجِمالُ ولا تزال في كثيرٍ من بقاع الأرض موردَ الحياة الأول للانسان ومن احسن المواصلات، حتى سُميت سفنَ الصحراء‏.‏ وهي قليلة التكاليف وعلى قوّتها وضخامتها يقودُها الصغير فتنقاد‏.‏ ولهيئتها مزية وفي تكوينها عَجَب‏.‏ فعينا الجمل ترتفعان فوق رأسه، وترتدّان الى الخلف‏.‏ ولهما طبقتان من الأهداب تقيانهما الرمالَ والقذَى‏.‏ وكذلك المِنخَران والأُذنان يكتنفها الشعر للغرضِ نفسِه‏.‏ فاذا ما هبّت العواصف الرملية، انقفل المِنخران وانثنت الأُذنان نحو الجسم‏.‏ والإِبلُ أصبرُ الحيوان على الجوع والعطش والكدح، ومزاياها كثيرة لا يتسع المقام لبسْطِها‏.‏ وما زال العلماء يجدون في الجمل كلّما بحثوا مصداقاً لِحَضِّ الله تعالى لهم على النظر في خَلْقه المعجز‏.‏

‏{‏وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ‏}‏

وتوجيه القلب الى السماء يتكرر في القرآن لما فيها من بهجةٍ وجَمال بهذه الملايين من النجوم المنثورة فيها، وما في خَلْقها من عظمة تدل على عظمة الخالق وجلاله‏.‏

‏{‏وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ‏}‏

ألا يشاهدون هذه الجبال الشامخة كيف نُصبت على الأرض لحفظِ توازنها فلا تميلُ ولا تميدُ، فهي عَلَمٌ للسائر، وملجأ من الجائر، ونزهة للناظر‏.‏

‏{‏وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ‏}‏

ألا ينظرون الى الأرض التي يتقلبون عليها كيف مهّدها الله لهم، فأينَ ما سافر الانسانُ يجدها مبسوطة سهلة مع أنها كروية الشكل‏.‏

والله تعالى يوجه انظارنا الى ما حولنا من مخلوقات وما نرى في هذه الطبيعة الجميلة حتى نتّعظ ونؤمنَ بقدرة مَن خلق هذا الكون العجيب، وما فيه من الكائنات، وقُدرته على حِفظها وإحكام صنعها، كي ندرك انه قادر على ان يُرجِع الخلق الى يومٍ يوفَّى فيه كل عامل جزاء عمله‏.‏

بعد أن بين الله للناس أمر الآخرة وما فيها من نعيم وشقاء، ونبّه الى مشاهد الكون المعروضة أمام الأنظار- وجّه الخطابَ الى الرسول عليه الصلاة والسلام ليقومَ بواجبه وطبيعةِ رسالته، بقوله الكريم‏:‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر‏}‏‏.‏

ذكّر الناسَ أيها الرسول بالآخرة وما فيها، وبالكون المعروض أمامهم وما فيه من عجائب، فإن مهمّتك التبليغُ ودعوةُ الناس الى ما فيه خيرهم ولستَ عليهم بمتسلّط‏.‏ وحسابُهم على الله، لكنّ من أعرضَ منهم وكفر فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا، وأمرُهم الى الله يعذّبهم العذابَ الذي لا عذاب فوقه‏.‏

ثم ختم هذه السورةَ الكريمة بآيتين قصيرتين جليلتين أكد فيهما رجوعَ الناس إليه وحسابَهم الدقيق في ذلك اليوم فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏

إنهم راجعون الينا، وسنحاسبُهم على ما كَسَبتْ أيديهم في سجلٍّ لا يغادِر صغيرةً ولا كبيرة الا أحصاها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل البصرة غير سهل‏:‏ تُصلى بضم التاء‏.‏ والباقون تَصلى بفتحها‏.‏ وقرأ أهل البصرة غير سهل‏:‏ لا يُسمع فيها لاغية بضم الياء ورفع لاغية‏.‏ والباقون‏:‏ لا تسمع بفتح التاء ونصب لاغية‏.‏ وقرأ نافع‏:‏ لا تسمع فيها لاغية بالتاء المضمومة ورفع لاغية‏.‏

سورة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

الفجر‏:‏ ضوء الصبح بعد ذهاب الليل‏.‏ وليالٍ عشر‏:‏ العشر الأُول من ذي الحجة‏.‏ والشَّفع والوتر‏:‏ العدد الزوجي والفردي‏.‏ والليل اذا يسر‏:‏ الليل اذا يمضي ويذهب‏.‏ لذي حِجر‏:‏ لذي عقل‏.‏ عاد‏:‏ من قبائل العرب البائدة‏.‏ إِرمَ ذات العماد‏:‏ ارم ذات البناء الرفيع، كانت في الأحقاف بين عُمان وحضرموت‏.‏ ثمود‏:‏ قبيلة من العرب البائدة‏.‏ جابوا الصخر‏:‏ قطعوه ونحتوه‏.‏ وفرعون ذي الأوتاد‏:‏ فرعون مصر صاحب الاهرام التي تشبه الاوتاد‏.‏ طغَوا في البلاد‏:‏ تجاوزوا القدر في الظلم‏.‏ سوط عذاب‏:‏ فأنزل الله عليهم ألوانا من العذاب‏.‏ المرصاد‏:‏ مكان المراقبة، رصد الأمرَ يرصده‏:‏ راقبه‏.‏ ابتلاه‏.‏ اختبره بكثرة الرزق‏.‏ فقدَر عليه رزقه‏:‏ ضيقه عليه‏.‏

‏{‏والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقسِم الله تعالى بالفجر والليالي العشر المباركة، وبالزوجِ والفردِ من كل شيء، وبالليلِ اذا يمضي بحركة الكون العجيبة ليهلكَ كل معاندٍ جبار‏.‏ ‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ‏؟‏‏}‏ ان في ذكر هذه الأشياء جميعاً قَسَماً عظيماً مقنعاً لذوي العقول، وحجّةً كافية على وجوده وقدرته‏.‏

وبعد ان أقسم سبحانه أنه سيعذّب الكافرين- شرع يذكر بعض قصص الجبابرة من الأمم الغابرة‏:‏ كيف أفسدوا وطغوا، فأوقع بهم أشدّ العذاب فقال‏:‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ألم تعلم يا محمد كيف أنزل ربك عقابَه بعادٍ قوم هود، أهلِ إرَمَ ذاتِ البناء الرفيع، والتي لم يُخلَق مثلها في البلاد ضخامةً وارتفاعا‏!‏‏؟‏ يوضح ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128-129‏]‏‏.‏ وقد تقدم الكلام على عاد ونبيّهم هود في أكثر من سورة‏.‏

‏{‏وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وثمودُ، قوم صالح، الذين قطعوا الصخرَ ونحتوه، وبنوا منه القصورَ والأبنيةَ العظيمة‏.‏ وكانت مساكنهم في الحِجر شماليّ الحجاز، ولا تزال بقايا من آثارهم موجودة‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 149‏]‏‏.‏

كذلك وَرَدَ ذِكر ثمود وبيّهم صالح في عدد من السور‏.‏

‏{‏وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

اذكُر كيف أنزلَ ربك عقابَه بفرعون صاحب الأهرام والمباني العظيمة، ووصفُ الأهرامِ بالأوتاد في غاية الدقة‏.‏

‏{‏الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد‏}‏

إن جميع هؤلاء‏:‏ قوم عاد وثمود وفرعون، قد طغَوا وبغَوا، وأفسدوا أشد الفساد‏.‏

‏{‏فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ‏}‏

فأنزل الله تعالى عليهم الوانا من البلاء والعذاب الشديد، وأهلكهم وأبادهم‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد‏}‏

إنه لَيرقب عمل الناس، ويحصيه عليهم ويجازيهم به‏.‏

وبعد أن بيّن سبحانه أنه لا يفوته شيء من شأن عباده، وأنه سيحاسِبهم ويجازيهم- ذكَر هنا طبيعة الإنسان الذي يَبْطَر عند الرخاء ويقنط من رحمة ربه عند الضرّاء فقال‏:‏

‏{‏فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ‏}‏‏.‏

فأما الانسان اذا ما اختبَره ربُّه فأنعم عليه ووسّع له في الرزق والجاه، فيقول مغترًّا بذلك‏:‏ ربّي فضّلني لأني أستَحِقّ هذا كلَّه‏.‏

وأما إذا ما اختبره بضيقِ الرزق فيقول غافلاً عن الحِكمة في ذلك‏:‏ لقد أهانني ربّي‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم‏:‏ والوتر بفتح الواو، والباقون بكسرها‏.‏ وقرأ ابن عامر فقدّر بفتح الدال بالتشديد‏.‏ والباقون بدون تشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 30‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

لا تحاضّون‏:‏ لأ يأمر بعضكم بعضاً بالمعروف‏.‏ التراث‏:‏ الميراث‏.‏ أكلاً لمّا‏:‏ شديداً جَمّا‏:‏ كثيراً‏.‏ دُكت الارض دَكًّا دَكًّا‏:‏ مهّدها وسوى العالي والنازل سواء‏.‏ صَفّاً صف‏:‏ صفا بعد صف بحسب رتبهم‏.‏ وجيء يومئذ بجهنّم‏:‏ كُشفت للناظرين بعد ان كانت غائبة عنهم‏.‏ وأنّى له الذكرى‏.‏ لا فائدة له من التذكر فقد فات الأوان‏.‏ الوثاق‏:‏ الرباط الشديد‏.‏ المطمئنة‏:‏ المؤمنة الطاهرة المستقرة‏.‏ فادخلي في عبادي‏:‏ في زمرة عبادي المكرمين‏.‏

بعد ان بيَّن الله خطأَ الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزقَ أو ضيَّق عليه- أردف ذلك بأن زَجَر الناس عما يرتكبون من المنكرات، وأنهم لو اتّبعوا ما يقولُ الرسُلُ الكرام وكانوا متعاطفين مع الفقيرِ واليتيمِ والمسكين- لما كانوا من أهلِ النار فقال‏:‏

‏{‏كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً‏}‏

ارتدِعوا أيها الغافلون، فلي الأمر كما تظنّون وتقولون‏.‏ بل أنتم لا تُكرمون اليتيم، ولا يحثُّ بعضُكم بعضاً على إطعام المسكين‏.‏ إنّكم بعيدون عن عملِ الخير، ومن جَشَعِكم تأكلون المالَ الموروث أكلاً شديدا، لا تميّزون فيه بين الحلال والحرام‏.‏ كَما تحبُّون المالَ حُبا حثيرا يدفعكم الى الحِرص على جَمْعِه والبُخل بإنفاقه‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ارتدِعوا عن تلك الأفعال، فأمامَكم أهوالٌ عظيمة يوم القيامة حين تُزلزَل الأرضُ ولا يبقى على وجهها بناء قائم، وتحطَّم معالمها‏.‏ ‏(‏وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع يوم القيامة‏)‏ ويأتي المَلِك العلاّم جلّ جلاله، والملائكةُ يَصْطَفّون صَفّا وراء صف‏.‏ ثم يؤتى بجهنم دارِ العذاب‏.‏ في ذلك اليوم يتذكر الإنسانُ ما فَرَّط فيه، لكنْ من أين له الذِكرى النافعة وقد فات الأوان‏!‏

‏{‏يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي‏}‏

يقول نادماً‏:‏ يا لَيتني قدَّمت في الدنيا أعمالاً صالحةً تنفعُني لحياتي في الآخرة، ولكن أنّى له ذلك‏!‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ‏}‏

في ذلك اليوم العصيب يَحِلُّ بالجاحِدين العذابُ الأكبر، ولا يمكن ان يعذبَ أحدٌ كعذابِ الله ولا يقيِّدُ أحدٌ بالسلاسل والأغلال مثلَ تقييد الله تعالى للكافرين‏.‏

وفي وسطِ هذا الهولِ المروّع، وهذا العذابِ والوثاق الذي يتجاوز كلَّ تصوُّرٍ- يأتي النداءُ من الملأ الأعلى للنفس المؤمنة‏:‏

‏{‏ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي‏}‏

يا أيتها النفس المؤمنةُ المخلِصة الطاهرة، لا يلحقُك اليومَ خوفٌ ولا فزع‏.‏ ارجِعي الى رضوان ربك راضيةً بما أُوتيتِ من النعم، مرضيّة بما قدَّمتِ من عمل، فادخُلي في زُمرة عبادي وادخلي جنَّتي، دارَ الخُلد وموطن الأبرار الصالحين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل البصرة‏:‏ لا يكرمون‏.‏ ولا يحضون‏.‏ ويأكلون التراث‏.‏ ويحبون- كلَّها بالياء‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء، ولا تحاضّون بألف وحاء كما هو في المصحف‏.‏

وقرأ الكسائي‏:‏ لا يعذِّب ولا يوثق بفتح الذال والثاء، وقرأ الباقون بالكسر‏.‏

سورة البلد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 20‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

البلد‏:‏ مكة المكرمة‏.‏ حِل‏:‏ مقيم فيه‏.‏ ووالدٍ وما ولد‏:‏ كل والد ومولود من الانسان والحيوان والنبات‏.‏ في كبَد‏:‏ في مشقة وتعب‏.‏ أهلكتُ مالاً لبدا‏:‏ انفقت مالاً كثيرا‏.‏ النَّجدَين‏:‏ طريقَي الخير والشر، والنجد‏:‏ المرتفع من الأرض‏.‏ اقتحم العقبة‏:‏ دخل بشدة في الطريق الصعب‏.‏ فكُّ رقبة‏:‏ عتق العبيد‏.‏ في يوم ذي مسغبة‏:‏ في يوم فيه جوع، سَغِبَ الرجلُ يسغب‏:‏ جاع‏.‏ يتيماً ذا مقربة‏:‏ من أهل قرابته‏.‏ أو مسكينا ذا متربة‏:‏ فقيرا جدا‏.‏ تواصَوا بالصبر‏:‏ نصح الناس بعضهم بعضا بالصبر‏.‏ الميمنة‏:‏ طريق النجاة والسعادة‏.‏ المشأمة‏:‏ طريق الشقاء‏.‏ مؤصَدة‏:‏ مغلقة مطبقة عليهم‏.‏ أصَدَ البابَ أصدا‏:‏ أغلقه‏.‏ وآصده إيصادا‏.‏ وأوصده‏.‏

‏{‏لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد‏}‏

أقسم قسماً مؤكدا بمكة، التي شرّفها الله فجعلَها حَرماً آمنا، وأنت يا محمدُ ساكنٌ ومقيم بمكّة تزيدها شَرفا وقدْرا‏.‏

‏{‏وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ‏}‏

وأقسَم بكل والدٍ ومولودٍ من الانسان وغيره، لأن بهما حِفظَ النوع وبقاءَ العمران‏.‏ وقد اقسم الله تعالى بوالدٍ وما ولد ليوجّه أنظارنا الى رفعة هذا الطور من أطوار الوجود‏.‏ وهو طورُ التوالد، والى ما فيه من بالغِ الحكمة واتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالدُ والمولود في ابتداء النشء، وتكميلِ الناشئ وإبلاغِه حدَّ النمو المقدَّر له‏.‏

‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ‏}‏

لقد خلقنا الانسان في مشقةٍ وتعب منذُ نشأتِه الى منتهى أمره‏.‏ فهو في مكابَدة وجَهدٍ وكَدْح، يقاسي من ضروب هذا التعبِ منذ نشأته في بطن أمّه إلى أن يصير رجلا‏.‏ وكلّما كَبِرَ ازدادت متاعبُه ومطالبه، فهو في كَبَدٍ دائم، ولا تنتهي حاجاتُه الا بانتهاء أجله ووفاته‏.‏

وبعد تقريرِ هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية شَرَعَ يبين لهذا الانسانِ المغرور المبذِّر أنّ الله تعالى يراه في جميع أحوالِه، وأنه أنعَم عليه بنعمٍ لا تقدَّر فقال‏:‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏

أيظن هذا الانسانُ المخلوق في مشقة وتعبٍ ان لن يقدِر على إخضاعِه أحد‏!‏ يقول هذا المغرور بكثرة ماله‏:‏ لقد أنفقتُ أموالاً كثيرة في سبيل الشهوات والشيطان‏.‏ أيظنُّ هذا المفتون بالشُّهرة والظهور أن الله غافلٌ عنه‏!‏ وأن امره قد خفيَ فلم يطَّلع عليه أحد‏؟‏‏!‏ كلاّ ان الله تعالى مطّلعُ على أعماله وسيسأله عنها يوم القيامة ويحاسِبه حساباص عسيرا‏.‏

ثم ذكّره اللهُ تعالى بما أنعم عليه من نعمٍ لا تُحصى في خاصة نفسه وفي صَميم تكوينه واستعداده، ولكنه لم يشكر هذه النعم ولم يقُم بحقّها‏.‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ‏}‏

ألم نخلق له عينين ينظُر بهما دلائلَ قدرة الله في هذا الكون، ولساناً وشفتين ليتمكّنَ من النطق والإفصاح عما في نفسه‏!‏‏؟‏ فالكلمةُ أحيانا تقوم مقام السيف والمدفع واكثر‏.‏

‏.‏‏.‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن معاذ بنِ جبلٍ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركَ برأس هذا الأمرِ وعمودِه وذِروة سنامه‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ رأسُ الأمر الاسلام، وعمودُه الصلاة، وذروة سنامه الجهاد‏.‏ ثم قال‏:‏ الا اخبرك بمَلاكِ ذلك كلّه‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ كفَّ عليك هذا، وأشار الى لسانه‏.‏ قلت‏:‏ يا نبيّ الله الا حصائدُ ألسِنتهم‏؟‏ رواه الامام احمد والترمذي والنسائي وابن ماجه‏.‏

‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النجدين‏}‏

بيّنا له طريقَ الخير والشر ليختارَ أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعدادُ المزدوج لسلوك أيّ النجدين‏.‏‏.‏

‏{‏فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏‏.‏

هلاّ أنفقَ مالَه في سبيل الله حتى يجتازَ العقبة الصعبة، وما أدراك ما هو اقتحامُ العقبة‏؟‏ هو انفاقُ المال في تحريرِ الأرقاء، واطعامُ الطعام في أيام المجاعة- وأَولى الناس بالمواساة هم الايتام من الاقارب- وإطعامُ المساكين الذي عجزوا عن الكسْب حتى كأنهم لصقوا بالتراب من العجز والفقر‏.‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة أولئك أَصْحَابُ الميمنة‏}‏‏.‏

ثم ان هؤلاء الذين يقتحمون العقبة بإنفاق أموالهم في وجوه البرّ والإحسان يكونون من المؤمنين الذين يعملون الخير، ويوصي بعضُهم بعضاً بالصبر والرحمة‏.‏‏.‏ يرحمون عبادَ الله ويواسُونهم ويساعدونهم‏.‏

‏{‏أولئك أَصْحَابُ الميمنة‏}‏

فهؤلاء هم أصحابُ اليمين، مآلهم الجنة في مقعدِ صِدقٍ عند مليك مقتدِر‏.‏

أما الذين جحدوا واغتَرّوا باموالهم وأنفسِهم وكفروا بالرسالة فمآلهم كما يقول‏:‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ‏}‏

أما الكافرون الجاحدون فهم أصحابُ الشِّمال، وهم في نار جهنم في سَمومٍ وحميم، عليهم نارُ جهنم مغلَقة مطبَقَة خالدين فيها أبدا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي‏:‏ فكَّ رقبةً، أو أطعمَ والباقون‏:‏ فَكُّ رقبةٍ أو اطعامٌ بالتنوين‏.‏ وقرأ ابو عمرو وحمزة وحفص‏:‏ مؤصدة بالهمزة، والباقون موصدة بدون همزة‏.‏